الرئيسية | التقويم الشهري | راسلنا
 
مقالات الأستاذ حسين المحروس
 
الأسدية
حسين المحروس - 2003/11/29 - [الزيارات : 7086]

من مجموعتي القصصيية(ضريح الماء) التي صدرت في 2001، ط1، المؤسسة العربية للطباعة والنشر، بيروت.

الأسديّة

كان يوما مشهودا في حيِّ النُعيم كلّه . تجمعوا من كلّ مكان فيه يترقبون حدوث المعجزة . العذابُ سوف ينزل بمَنْ يحاول قلع شجرة السدرة " الأسدية "
- كلام نسوان والله.
- لعن الله الشاك يا ولدي؟
ما كانت " الأسدية " تُورق إلا في أغصانها العلوية فقط . وسطها أشبه بساق شجرة ميتة يابسة. أما الجزء الأسفل ، القريب من الأيدي فقد صار قطعة من عود البخور لكثرة ما شُرَّبَ من " عطورات " ، وماء الورد . ولكثرة التمسح به صار أملس تنزلق اليد عليه . ساق بُني اللون يشتاق الجميع لشمّ رائحته وتقبيله.
تَسلّقُ " الأسدية" لم يكنْ محرما ، فالأطفال يتسلقونها يوميا للعب واللهو . لكنّ أيّة محاولة لإيذائها محرمة وكبيرة ، لن يسلم من يؤذيها من خسف أو بلاء يحله . تأتيها الناس من كلّ مكان بالحافلات الكبيرة في صورة أشبه بالحج الرهيب ، حيث تقام عندهـــــا " النذورات " ويطلب التوفيق في الحياة ، والنجاح في المدرسة ، والأعمال .
وإلى جنب " الأسدية " كانت نُخيلات ثلاث يربط السيد حسن عندها حماره وعربته الخشبية . يقول السيد: إنّه جاء إلى حماره ذات صباح فوجدها تتحرك بحركات غريبة لم يرها منها منذ عشر سنوات ، وكأنّ رأسها يدور. " عرفت أنّها سكرانة.. أولاد الحرام سقوها خمرة ليلا " !!
وعندما تلد امرأة قي حيّ النعيم وما جاورها يجلب إلى الأسدية ما كتبه الله من حلويات، و"رشوف " تلك الأكلة الشعبية التي تصنع بعد ولادة المرأة .. لذيذة .. ولن يفوت الأطفال ذلك أبدا .. يأكلونها بأيديهم إذا نقصت الملاعق . وهي دائما ما كانت تنقص !! وبعض النسوة يضعن قطع النقود المعدنية في الرشوف زيادة في البركة.
قليلون هم الذين يقتربون منها ليلا ، فحمارة السيد تبدو مخيفة عندما تحرك أذنها البيضاء وهي نائمة . وقربها من المقبرة المظلمة له دور في ذلك . " سمعت الأسديّة تأنّ البارحة أنين الفاقدة .. بكيت لكن ما اقتربت منها " قالت ذلك امرأة للنساء ! وفي الصبح تفقدها بعض نساء الحي فوجدن آثار منشار في جدعها ، وسائل أحمر يسيل منه . قالت النساء: إنّها الدماء تفجرت منها، وأنّ الفاعل لابد أن يُخْسَف به أو يهلك :
- يريدون أن ينزل علينا العذاب ..
- إن شاء الله ما ينام هذه الليلة ولد (...) ؟
- الآن نسوا فضلها عليهم.
- لعن الله الشاك يا بنتي
الأيام تجري وأثر المنشار في قلوب النساء والشجرة صار ذكرى لقصة لا تنسى ، ترددها النساء لكلّ زائرة ، وزائر. وقبل مغادرة الأسدية يقبلها النساء في مكان أثر المنشار.
وفي يوم تمنّتِ النساء أنّه لو لم يكنَّ فيه على قيد الحياة ، جاء الخبر من رجال الحيّ وانتشر بين النسوان :
- أصحاب الأرض يريدون بناء منازلهم في مكان الأسدية
- أين ؟!
- مـ.. مـ.. مكان الأسدية؟؟
- و الأسدية ؟؟؟!
- لا يمكن .. حرام.. الله ينزل عليهم العذاب .
- لعن الله الشاك يا بنتي.
انتشر الخبر في الحي فبدد الهدوء الرتيب . بعض النساء لم يصدقن الخبر، وأخريات لم ينمن ليلة ذلك اليوم . آمنت النساء بحدوث معجزة تخسف بكلّ من يحاول قلع الأسدية المقدسة .. دبّت حركة نسائية كبيرة لا نظير لها في تاريـخ الحيّ . ولم يتأكّد الخبر إلا بعد أن جاءت شاحنة كبيرة توقفت بجوار الأسدية . نزل منها ثلاثة آسيويين ، وسيارة أخرى صغيرة توقفت بعيدا نزل منها رجل قيل إنّه صاحب الأرض. يبدو عليه الاضطراب وحركاته غير مستقرة .
انتشر الخبر فتجمعت النساء بسرعة على مسافة منها ، وبعضهن يرقبن الحدث من نوافذ وشرفات المنازل المطـلة على الأسدية ، فكان لهنَّ دويّ وضجيج . الآسيويون مندهشون وخائفون . بعض الرجال واقفون، وكثير من استنكارات النساء بعضهن قذف الآسيويين بالحجارة حتى كاد أحدهم الهرب لولا صاحب الأرض :
- الله يخسف بهم ولا يرجعون سالمين .
- لعن الله الرجال .
- رجال على النسوان فقط؟
- رجال في الليل ليس أكثر .
- لا أحد يستطيع قلعها مهما فعل .
- لعن الله الشاك يا بنتي.
الأطفال فرحون، ينتظرون الورق الأخضر الذي ما كانوا يصلون إليه . الأخضر يهبط إليهم لأوّل مرة .
الدويّ صمت فجأة ، وقلّت حركة النساء عندما لفَّ أحد الآسيويين الأسدية بحبل غليظ عدّة مرّات، وشدَّ طرفه الآخر بمؤخرة الشاحنة . تدخّلتْ إحدى النساء الواقفات معارضةً لكنّها سرعان ما ابتعدت .. هدوء تام .. ترقّب المعجزة .. البلاء .. صعد آخر إلى الشاحنة وأدار محـركها المزعج . احمرّت وجوه ، وغادرت أخريات خوفا من مشهد الخسف ، بينما أغمي على إحداهن قالت النساء" إنّها حامل " . تحركت الشاحنة فاشتدّ الحبل . اشتدّ أكثر.. أكثر. عجلات الشاحنة تدور بسرعة لكنّ الشاحنة واقفة لم تبرح مكانها . زاد السائق سرعتها فانقطع الحبل، وانطلقت الشاحنة إلى الأمام بسرعة دون فائدة ! ارتفعت الصلوات ، والتكبيرات ، وزاد التمسّك بالأسدية . آمن رجال واضطرب آخرون . غيّر السائق خطته ، إذ أضاف سلسلة حديدية إلى الحبل وجعلهما مرخيين ثمّ انطلق بأقصى سرعة .. ارتفعت .. ارتفعت الشاحنة من الخلف ، والعجلات تدور في الهواء .. ارتفع صوت المحرك وشغل المكان . رأى الجميع دخانا كثيفا ينبعث من المحرك الذي توقف فجأة .. احترق.
علمت النساء فارتفعت الصلوات بأصوات واضحة متحدية. وما إن غادر العمال المكان حتى انطلق الناس نحو الأسدية المقدسة يقبلونها ، ويتمسحون بها. بكت النساء عندها، ووضعت الخدود عليها فأخذت أشـكالا جديدة . و طلبت أخريات منها الصفح والعفو بصوت حزين .كانت أكتاف النساء تهتـزّ .. بكاء .. تحسست امرأة مكان الحبل والسلسلة في خوف .. قد تتألم .. وما أن لامست أصابعها موضع الاحتكاك حتى ارتعشت .. موضع النبض .. ومررت الثياب على موضع الاحتكاك تبركا . جمعت الأوراق الخضراء، فنقعت في الماء، وسقي منه الأطفال ، ومسح به عيون كبار السن، والعجائز. أما النذور التي وقعت في ذلك اليوم فإنها تفوق حد التصور، وزاد عدد الزوار .. ـ سائق السيارة احترق من الداخل أول
- صاحب الأرض حل به الخسف .
- خرج نور فتك بالسائق .
- عروق الأسدية صارت سيوف بترت رجل السائق .
- الذي خرج من الأسدية هو الذي قتل السائق وحرق السيارة
- لعن الشاك يا بنتي
وبعد يومين عاد صاحب الأرض ومعه جرافة كبيرة (بلدوزر). صاحب الأرض بدا خائفا أكثر هذه المرة. ولفتاته تجاوزت نبضات قلبه. السيجارة تبدو وكأنها سبع سجائر في يده .. تجمع الناس ومعهم أهالي المناطق المجاورة جاءوا لزيارة الأسدية في ذلك اليوم .. الثقة كانت كبيرة في فشل المحاولة الجديدة لقلع الأسدية المقدسة . الصلوات لم تنقطع . ستكون المعجزة أكبر اليوم ، وإيمان نساء حيّ النعيم راســخ لا يتزعزع . الخسف سيكون شديدا على العاملين. لم يعترض أحد هذه المرة، ولم تستنكر النساء ، فالبلاء واقع بالأعداء لا مـحالة . " هي التي ستدافع عن نفسها كما فعلت من قبل " .
تقدّم السائق من الأسدية وأخذ ينظر إليها بإمعان. ينظر إلى الأرض تارة، وإلى الأسدية تارة أخرى.
- مجنون
صعد الجرافة وأدار المحرك . تقدّم نحو الأسدية فعمّ الهدوء . وجّه إليها ضربات عديدة بمقدّمة الجرافة في عدّة مواضع كان صداها في قلوب النساء كبيرا. عشر دقائق . تسلّق السائق الأسدية وربط حبلا غيظا في أعلاها، وشدّ الحبل إلى الجرافة . تقدّمت الجرافة ببطء شديد وثبات وحذر إلى الأمام .. مالت .. مالت الأسدية قليلا قليلا إ! وكلّما زاد ميلها، وأقترب أعلاها من الأرض زاد الخوف ، وعمّ الصمت؟! ها هي الأميرة تقوم بجذورها الضخمة من التراب مخلفة حفرة عميقة ، وكبيرة مكانها . واصلت الجرافة طريقها تجرّ الأسدية نحو ورش القلافين " صنّاع السفن " عبر طرق الحيّ مثيرة غبارا كثيفا حجب الرؤية قليلا .. ركض الأطفال خلفها يكركرون ويتضاحكون.
- صعدت إلى السماء في صف شجرة الجنّة .
- سترجع يوما وهي خضراء موردة في كل بيت منها غصن أخضر ينزل من السماء قبل صلاة الفجر.
- لعن الله الشاك يا بنتي .
- صارت الحفرة مزارا تُؤخذ منها الجذور وتلفّ في قماش أخضر ..

نشر:
 
 
اكتب تعليقك هنا
الاسم
المدينة
التعليق
من
رمز التأكيد Security Image
 
 
أقسام الشبكة
 نبذة تاريخية أنشطة وفعاليات
 مقالات تعازي
 شخصيات أخبار الأهالي
 إعلانات النعيم الرياضي
 تغطيات صحفية ملف خاص
 خدمات الشبكة المكتبة الصوتية
 معرض الصور البث المباشر
 
جميع الحقوق محفوظة لشبكة النعيم الثقافية © 2003 - 2025م